الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} هذه الموجة بقية في مواجهة المشركين بحقيقة الرسالة، وطبيعة الرسول؛ بمناسبة طلبهم للخوارق- التي ذكرنا نماذج منها في الفقرة السابقة في هذا السياق- وبقية في تصحيح التصورات الجاهلية- والبشرية بصفة عامة- عن الرسالات والرسل؛ بعدما عبثت بهذه التصورات جاهليات العرب وغيرهم من الأمم حولهم؛ فابتعدت بها عن حقيقة الرسالة وحقيقة النبوة، وحقيقة الوحي، وحقيقة الرسول؛ ودخلت بها في خرافات وأساطير وأوهام وأضاليل؛ حتى اختلطت النبوة بالسحر والكهانة، واختلط الوحي بالجن والجنون أيضاً! وأصبح يطلب من النبي أن يتنبأ بالغيب؛ وأن يأتي بالخوارق؛ وأن يصنع ما عهد الناس أن يصنعه صاحب الجن والساحر!.. ثم جاءت العقيدة الإسلامية لتقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق، ولترد إلى التصور الإيماني وضوحه وبساطته وصدقه وواقعيته، ولتخلص صورة النبوة وصورة النبي من تلك الخرافات والأساطير والأوهام والأضاليل، التي شاعت في الجاهليات كلها. وكان أقربها إلى مشركي العرب جاهليات أهل الكتاب من اليهود والنصارى على اختلاف الملل والنحل بينهم، وكلها تشترك في تشويه صورة النبوة وصورة النبي أقبح تشويه! وبعد بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول، وتقديمها للناس مبرأة من كل ما علق بصورة النبوة وصورة النبي من أوهام وأضاليل. يقدم القرآن عقيدته للناس مجردة من كل إغراء خارج عن طبيعتها، ومن كل زينة زائدة عن حقيقتها.. فالرسول الذي يقدمها للناس بشر، لا يملك خزائن الله، ولا يعلم الغيب، ولا يقول لهم: إني ملك.. وهو لا يتلقى إلا من ربه، ولا يتبع إلا ما يوحى إليه منه. والذين يقبلون دعوته هم أكرم البشر عند الله، وعليه أن يلزمهم، وأن يهش لهم، وأن يبلغهم ما كتبه الله لهم على نفسه من الرحمة والمغفرة. كما أن عليه إنذار الذين تتحرك ضمائرهم من خشية الآخرة؛ ليصلوا إلى مرتبة التقوى، وفي هذا وذلك تنحصر وظيفته، كما أنه في «البشرية» وفي «تلقي الوحي» تنحصر حقيقته. فتصح في التصورات حقيقته ووظيفته جميعاً.. ثم إنه بهذا التصحيح، وبهذا الإنذار، تستبين سبيل المجرمين، عند مفرق الطريق، ويتضح الحق والباطل، وينكشف الغموض والوهم حول طبيعة الرسول وحول حقيقة الرسالة، كما ينكشف الغموض حول حقيقة الهدى وحقيقة الضلال، وتتم المفاصلة بين المؤمنين وغير المؤمنين في نور وفي يقين. وفي ثنايا الإفصاح عن هذه الحقائق يعرض السياق جوانب من حقيقة الألوهية، وعلاقة الرسول بها، وعلاقة الناس جميعاً- الطائعين منهم والعصاة- ويتحدث عن طبيعة الهدى وطبيعة الضلال عن هذه الحقيقة. فالهدى إليها بصر والضلال عنها عمى. والله كتب على نفسه الرحمة متمثلة في التوبة على عباده والمغفرة لما يرتكبونه من المعاصي في جهالة متى تأبوا منها وأصلحوا بعدها. وهو يريد أن تستبين سبيل المجرمين، فيؤمن من يؤمن عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، ويتخذ الناس مواقفهم في وضوح لا تغشيه الأوهام والظنون.. {قل: لا أقول لكم: عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك. إن أتبع إلا ما يوحى إليّ قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون}.. لقد كان المعاندون من قريش يطلبون أن يأتيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بآية من الخوارق يصدقونه بها- وهم كانوا كما أسلفنا يعلمون صدقه ولا يشكون فيه- وتارة كانوا يطلبون أن تكون هذه الآية تحويل الصفا والمروة ذهباً! وتارة تكون إبعادهما عن مكة ليصبح مكانهما خصباً مخضراً بالزروع والثمار! وتارة تكون إنباءهم بما سيقع لهم من أحداث مغيبة! وتارة تكون طلب إنزال ملك عليه! وتارة تكون طلب كتاب مكتوب في قرطاس يرونه يتنزل عليه من السماء.. إلى آخر هذه المطالب التي يوارون وراءها تعنتهم وعنادهم! ولكن هذه المطالب كلها إنما كانوا يصوغون فكرتها من تلك الأوهام والأساطير التي أحاطت بصورة النبوة وصورة النبي في الجاهليات من حولهم، وأقربها إليهم أوهام أهل الكتاب وأساطيرهم حول النبوة، بعدما انحرفوا عما جاءتهم به رسلهم من الحق الواضح في هذه الأمور.. ولقد شاعت في الجاهليات المتنوعة صور من «النبوءات» الزائفة، يدعيها «متنبئون» ويصدقها مخدوعون.. ومن بينها نبوءات السحر والكهانة والتنجيم والجنون! حيث يدعي المتنبئون قدرتهم على العلم بالغيب، والاتصال بالجن والأرواح، وتسخير نواميس الطبيعة بالرقى والتعاويذ، أو بالدعوات والصلوات، أو بغيرها من الوسائل والأساليب. وتتفق كلها في الوهم والضلالة، وتختلف بعد ذلك في النوع والشكل والمراسم والأساليب. «فنبوءة السحر يغلب عليها أنها موكلة بالأرواح الخبيثة تسخرها للاطلاع على المجهول أو السيطرة على الحوادث والأشياء. ونبوءة الكهانة يغلب عليها أنها موكلة» بالأرباب! «لا تطيع الكاهن، ولكنها تلبي دعواته وصلواته وتفتح لها مغالق المجهول في يقظته أو منامه، وترشده بالعلامات والأحلام، ولا تلبي سائر الدعوات والصلوات! ولكنهما- نبوءة السحر ونبوءة الكهانة- تخالفان نبوة الجذب والجنون المقدس. لأن الساحر والكاهن يدريان بما يطلبان، ويريدان قصداً ما يطلبانه بالعزائم والصلوات، ولكن المصاب بالجذب أو الجنون المقدس مغلوب على أمره، ينطلق لسانه بالعبارات المبهمة وهو لا يعنيها، ولعله لايعيها. ويكثر بين الأمم التي تشيع فيها نبوة الجذب أن يكون مع المجذوب مفسر يدعي العلم بمغزى كلامه، ولحن رموزه وإشاراته. وقد كانوا في اليونان يسمون المجذوب» مانتي «» Manti «ويسمون المفسر:» بروفيت «» Prophet «أى المتكلم بالنيابة عن غيره. ومن هذه الكلمة نقل الأوربيون كلمة النبوة بجميع معانيها. وقلما يتفق الكهنة والمجذوبون، إلا أن يكون الكاهن متولياً للتفسير والتعبير عن مقاصد المجذوب، ومضامين رموزه وإشاراته. ويحدث في أكثر الأحيان أن يختلفا ويتنازعا لأنهما مختلفان بوظيفتهما الاجتماعية مختلفان بطبيعة النشأة والبيئة. فالمجذوب ثائر لا يتقيد بالمراسم والأوضاع المصطلح عليها، والكاهن محافظ يتلقى علمه الموروث في أكثر الأحيان من آبائه وأجداده. وتتوقف الكهانة على البيئة التي تنشأ فيها الهياكل والصوامع المقصودة في الأرجاء القريبة والبعيدة؛ ولا يتوقف الجذب على هذه البيئة، لأنه قد يعتري صاحبه في البرية، كما يعتريه في الحاضر المقصود من أطراف البلاد «. » وقد كثر عدد الأنبياء في قبائل بني إسرائيل كثرة يفهم منها أنهم كانوا في أزمنتهم المتعاقبة يشبهون في العصور الحديثة أصحاب الأذكار، ودراويش الطرق الصوفية، لأنهم جاوزوا المئات في بعض العهود، واصطنعوا من الرياضة في جماعاتهم ما يصطنعه هؤلاء الدراويش من التوسل إلى حالة الجذب تارة بتعذيب الجسد، وتارة بالاستماع إلى آلات الطرب. «جاء في كتاب صموئيل الأول: أن شاول أرسل لأخذ داود رسلاً..» فرأوا جماعة الأنبياء يتنبأون، وشاول واقف بينهم رئيساً عليهم. فهبط روح الله على رسل شاول، فتنبأوا هم أيضاً. وأرسل غيرهم فتنبأ هؤلاء... فخلع هو أيضاً ثيابه، وتنبأ هو أيضاً أمام صموئيل، وانتزع عارياً ذلك النهار كله وكل الليل «.. » وجاء في كتاب صموئيل كذلك: «... أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من الأكمة، وأمامهم رباب ودف وناي وعود، وهم يتنبأون، فيحل عليهم روح الرب، فتتنبأ معهم، وتتحول إلى رجل آخر. » وكانت النبوة صناعة وراثية يتلقاها الأبناء من الآباء كما جاء في سفر الملوك الثاني: «إذ قال بنو الأنبياء يا ليشع: هو ذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا، فلنذهب إلى الأردن». «وكانت لهم خدمة تلحق بالجيش في بعض المواضع، كما جاء في سفر الأيام الأول. حيث قيل: إن داود ورؤساء الجيش أفرزوا للخدمة بني أساف وغيرهم من المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج»... وهكذا حفلت الجاهليات- ومنها الجاهليات التي انحرفت عن التصور الصحيح الذي جاءت به الرسالات السماوية- بمثل هذه التصورات الباطلة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي. وكان الناس ينتظرون ممن يدعي النبوة مثل هذه الأمور؛ ويطالبونه بالتنبؤ بالغيب تارة؛ وبالتأثير في النواميس الكونية عن طريق الكهانة أو طريق السحر تارة.. ومن هذا المعين كانت اقتراحات المشركين على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولتصحيح هذه الأوهام كلها جاءت التقريرات المكررة في القرآن الكريم عن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول.. ومنها هذا التقرير: {قل: لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك. إن أتبع إلا ما يوحى إليِّ. قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون؟}.. إنه- صلى الله عليه وسلم- يؤمر من ربه أن يقدم لهم نفسه بشراً مجرداً من كل الأوهام التي سادت الجاهليات عن طبيعة النبي والنبوة. وأن يقدم لهم كذلك هذه العقيدة بذاتها مجردة من كل إغراء.. لا ثراء. ولا ادعاء.. إنها عقيدة يحملها رسول، لا يملك إلا هداية الله، تنير له الطريق! ولا يتبع إلا وحي الله يعلمه ما لم يكن يعلم.. إنه لا يقعد على خزائن الله، ليغدق منها على من يتبعه، ولا يملك مفاتح الغيب ليدل أتباعه على ما هو كائن؛ ولا هو ملك كما يطلبون أن ينزل الله ملكاً.. إنما هو بشر رسول؛ وإنما هي هذه العقيدة وحدها، في صورتها الناصعة الواضحة البسيطة.. إنها العقيدة هتاف هذه الفطرة، وقوام هذه الحياة ودليل الطريق إلى الآخرة، وإلى الله. فهي مستغنية بذاتها عن كل زخرف.. من أرادها لذاتها فهو بها حقيق، وهي عنده قيمة أكبر من كل قيمة. ومن أرادها سلعة في سوق المنافع، فهو لا يدرك طبيعتها، ولا يعرف قيمتها، وهي لا تمنحه زاداً، ولا غناء.. لذلك كله يؤمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقدمها للناس هكذا، عاطلة من كل زخرف، لأنها غنية عن كل زخرف؛ وليعرف من يفيئون إلى ظلها أنهم لا يفيئون إلى خزائن مال، ولا إلى وجاهة دنيا، ولا إلى تميز على الناس بغير التقوى. إنما يفيئون إلى هداية الله وهي أكرم وأغنى. {قل: لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك إنْ أتبع إلا ما يوحى إليّ}.. ثم ليعلموا أنهم حينئذ إنما يفيئون إلى النور والبصيرة، ويخرجون من الظلام والعماء: {قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون؟}.. ثم.. إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر، والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى.. هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة.. فما شأن العقل البشري في هذا المجال؟ سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط.. إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي، وإدراك مدلولاته.. وهذه وظيفته.. ثم هذه هي فرصته في النور والهداية؛ وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيداً عن الوحي، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف، وسوء الرؤية، ونقص الرؤية، وسوء التقدير، وسوء التدبير. يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحداً. تجربة بعد تجربة، وحادثة بعد حادثة، وصورة بعد صورة.. حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة، ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاماً، ويضع على أساسها نظاماً، ملحوظاً فيه الشمول والتوازن. . ومن ثم يظل- حين ينعزل عن منهج الله وهداه- يرتاد التجارب، ويغير الأحكام، ويبدل النظام، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال.. وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة، وأجهزة إنسانية كريمة.. ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله؛ وجعل التجارب والتقلبات في «الأشياء» وفي «المادة» وفي «الأجهزة» وفي «الآلات».. وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه. والخسارة في النهاية مواد وأشياء. لا أنفس وأرواح! ويتعرض لهذا كله- بعد طبيعة تركيبه- بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات، لا بد لها من ضابط، يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها، ولا تتعدى هذا الحد المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها! وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده؛ فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات- وهي شتى- من ضابط آخر يضبطه هو ذاته؛ ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضاً، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة، وكل حكم- في مجال الحياة البشرية- ليقّوم به تجربته وحكمه، وليضبط به اتجاهه وحركته. والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي، باعتبار أن كليهما- العقل والوحي- من صنع الله فلا بد أن يتطابقا.. هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر، ولم يقل بها الله سبحانه! والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي- حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر- إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله.. فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة، ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به. لأن الله سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل، وأن الفطرة وحدها تنحرف. وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي، وهو النور والبصيرة. والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين؛ أو أن العلم- وهو من منتجات العقل- يغني البشرية عن هدى الله؛ إنما يقولون قولاً لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك.. فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم، هي أبأس حياة يشقى فيها «الإنسان» مهما فتحت عليه أبواب كل شيء؛ ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد؛ ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق.. وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون! فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات. ثم يقيم له الأسس، ويضع له القواعد، التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة؛ كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها- وفق شريعة الله- فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك! والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير، وبترك وحي الله وهداه أعمى، واقتران الحديث عن تلقي الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الوحي وحده، بالإشارة إلى العمى والبصر، بالسؤال التحضيضي على التفكير: {إن أتبع إلا ما يوحى إليّ قل: هل يستوي الأعمى والبصير: أفلا تتفكرون؟}.. اقتران الإشارات وتتابعها على هذا النحو في السياق، أمر ذو دلالة في التعبير القرآني.. فالتفكر مطلوب، والحض عليه منهج قرآني؛ ولكنه التفكر المضبوط بضابط الوحي، الذي يمضي معه مبصراً في النور؛ لا مطلق التفكر الذي يخبط في الظلام أعمى، بلا دليل ولا هدى ولا كتاب منير.. والعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق، إنما يتحرك في مجال واسع جداً.. يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله، الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضاً؛ كما يحتوي أغوار النفس ومجالي الأحداث، ومجالات الحياة جميعاً.. فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج، وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات! وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعاً. فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان.. العقل.. إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني.. فلا تضل إذن ولا تطغى.. {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون. ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء. فتطردهم فتكون من الظالمين. وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين؟ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل: سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح، فأنه غفور رحيم}.. إنها عزة هذه العقيدة، واستعلاؤها على قيم الأرض الزائفة، وتخلصها من الاعتبارات البشرية الصغيرة.. لقد أُمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقدمها للناس دون زخرف ولا طلاء؛ ودون إطماع في شيء من قيم الأرض ولا إغراء.. كذلك أمر أن يوجه عنايته إلى من يرجى منهم الانتفاع بالدعوة، وأن يؤوي إليه الذين يتلقونها مخلصين؛ ويتجهون بقلوبهم إلى الله وحده يريدون وجهه؛ وألا يقيم وزناً بعد ذلك لشيء من قيم المجتمع الجاهلي الزائفة؛ ولا لشيء من اعتبارات البشر الصغيرة: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، لعلهم يتقون}. أنذر به هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، حالة أن ليس من دونه ولي ينصرهم ولا شفيع يخلصهم. ذلك أنه ما من شفيع يشفع عند الله إلا بإذنه، وهو لا يشفع يومئذ- بعد الإذن- إلا لمن ارتضى الله أن يتشفع عند الله فيهم.. فهؤلاء الذين تستشعر قلوبهم خوف ذلك اليوم الذي ليس فيه- من دون الله- ولي ولا شفيع، أحق بالإنذار، وأسمعُ له، وأكثر انتفاعاً به.. لعلهم أن يتوقوا في حياتهم الدنيا وما يعرضهم لعذاب الله في الآخرة. فالإنذار بيان كاشف كما أنه مؤثر موحٍ. بيان يكشف لهم ما يتقونه ويحذرونه، ومؤثر يدفع قلوبهم للتوقي والحذر؛ فلا يقعون فيما نهوا عنه بعدما تبين لهم: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.. لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله؛ فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء؛ يريدون وجهه سبحانه! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه.. وهي صورة للتجرد، والحب، والأدب.. فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء. وهو لا يبغي وجه الله، إلا إذا تجرد. وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب. وهو لا يفرد الله- سبحانه- بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب، وصار ربانياً يعيش لله وبالله.. ولقد كان أصل القصة أن جماعة من «أشراف» العرب، أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام؛ لأن محمداً- صلى الله عليه وسلم- يؤوي إليه الفقراء الضعاف، من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود.. ومن إليهم.. وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم؛ ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يطردهم عنه.. فأبى.. فاقترحوا أن يخصص لهم مجلساً ويخصص للأشراف مجلساً آخر، لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف، كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي! فهمّ- صلى الله عليه وسلم- رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه. فجاءه أمر ربه: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.. روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال كنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- ستة نفر. فقال المشركون للنبي- صلى الله عليه وسلم-: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما.. فوقع في نفس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله أن يقع. فحدث نفسه. فأنزل الله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.. ولقد تقوّل أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف، الذين يخصهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمجلسه وبعنايته؛ وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام.. فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل؛ ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضاً: {ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم فتكون من الظالمين}.. فإن حسابهم على أنفسهم، وحسابك على نفسك. وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله، لا شأن لك به. كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به. ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه. فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله، ولا تقوّم بقيمه.. فكنت من الظالمين.. وحاشا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكون من الظالمين! وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم؛ والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه. واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله.. عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون: كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء؟ إنه لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقونا إليه؛ ولهدانا الله به قبل أن يهديهم! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمنُّ الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه! وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب؛ والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين؛ وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية، مشرقة الآفاق، مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة؛ التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها؛ وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها! {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا؟}.. ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء: {أليس الله بأعلم بالشاكرين}؟ هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات: إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة، التي لا كفاء لها من شكر العبد، ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعدله جزاء. وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية. إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها. لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء. فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات! وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء. وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد. وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله.. ويمضي السياق يأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو رسول الله أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالإسلام؛ والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف!.. أن يبدأهم بالسلام.. وأن يبشرهم بما كتبه الله على نفسه من الرحمة؛ متمثلاً في مغفرته لمن عمل منهم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل: سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح، فأنه غفور رحيم}.. وهو التكريم- بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب، والرحمة في الجزاء، حتى ليجعل الله- سبحانه- الرحمة كتاباً على نفسه للذين آمنوا بآياته؛ ويأمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يبلغهم ما كتبه ربهم على نفسه. وحتى لتبلغ الرحمة أن يشمل العفو والمغفرة الذنب كله، متى تابوا من بعده وأصلحوا- إذ يفسر بعضهم الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب؛ فما يذنب الإنسان إلا من جهالة؛ وعلى ذلك يكون النص شاملاً لكل سوء يعمله صاحبه؛ متى تاب من بعده وأصلح. ويؤيد هذا الفهم النصوص الأخرى التي تجعل التوبة من الذنب- أياً كان- والإصلاح بعده، مستوجبة للمغفرة بما كتب الله على نفسه من الرحمة... ونعود- قبل الانتهاء من استعراض هذه الفقرة من السورة- إلى بعض الآثار التي وردت عن ملابسات نزول هذه الآيات؛ وعن دلالة هذه الآثار مع النصوص القرآنية على حقيقة النقلة الهائلة التي كان هذا الدين ينقل إليها البشرية يومذاك؛ والتي ما تزال البشرية حتى اليوم دون القمة التي بلغتها يومها ثم تراجعت عنها جداً.. قال أبو جعفر الطبري: حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو زبيد، عن أشعث، عن كردوس الثعلبي، عن ابن مسعود، قال: مر الملأ من قريش بالنبي- صلى الله عليه وسلم- وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين. فقالوا: يا محمد، رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك! فنزلت هذه الآية: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}. . {وكذلك فتنا بعضهم ببعض} إلى آخر الآية. وقال: حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي- وكان قارئ الأزد- عن أبي الكنود، عن خباب في قول الله تعالى ذكره: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.. إلى قوله: {فتكون من الظالمين}.. قال: «جاء الأقرع ابن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجد النبي- صلى الله عليه وسلم- قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب، في أناس من الضعفاء من المؤمنين. فلما رأوهم حقروهم. فأتوه فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد؛ فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا؛ فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت! قال: نعم! قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً. قال: فدعا بالصحيفة، ودعا علياً ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآية: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم، فتكون من الظالمين}.. ثم قال: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين؟}.. ثم قال: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل: سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة}.. فألقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الصحيفة من يده؛ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول:» سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة «.. فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا. فأنزل الله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}.. [سورة الكهف: 28] قال: فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقعد معنا بعد، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم! وكان- صلى الله عليه وسلم- بعدها إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أبدأهم بالسلام». وفي صحيح مسلم: عن عائذ بن عمرو، «أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال، ونفر. فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها! قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فأخبره. فقال: يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم. لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك. فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي». نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص. . والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك.. إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادئ وقيم ونظريات في «حقوق الإنسان!».. إنها أكبر من ذلك بكثير.. إنها تمثل شيئاً هائلاً تحقق في حياة البشرية فعلاً.. تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها.. تمثل خطاً وضيئاً على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقية.. ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين، فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة؛ ومن ضخامة هذا الشيء الذي تحقق يوماً؛ ومن أهمية هذا الخط الذي ارتسم بالفعل في حياة البشر الواقعية.. إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم. أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه؛ ما دام أنها قد بلغته؛ فهو في طوقها إذن وفي وسعها.. والخط هناك على الأفق، والبشرية هي البشرية؛ وهذا الدين هو هذا الدين.. فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين.. وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله.. من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب، إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها، وأطلعتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها! فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم- وكانت في البشرية كلها- فهو يتمثل واضحاً في قوله: «الملأ» من قريش: «يا محمد، رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك!».. أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، للسابقين من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، وأمثالهم من الضعفاء؛ وقولهما للنبي- صلى الله عليه وسلم-: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا؛ فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد! «.. .. هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح! وقيمها الهزيلة، واعتباراتها الصغيرة.. عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة.. وما إلى ذلك من اعتبارات. هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء!.. ذات القيم التي تروج في كل جاهلية! والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية! هذا هو سفح الجاهلية.. وعلى القمة السامقة الإسلام! الذي لا يقيم وزناً لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة، ولهذه النعرات السخيفة!.. الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض. فالأرض كانت هي هذا السفح.. هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة. . الإسلام الذي يأتمر به- أول من يأتمر- محمد- صلى الله عليه وسلم- محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء؛ والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش.. والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم؛ في شأن «هؤلاء الأعبد».. نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد؛ وصاروا أعبداً لله وحده؛ فكان من أمرهم ما كان! وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش، وفي مشاعر الأقرع وعيينة.. فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر الله العلي الكبير، لرسوله- صلى الله عليه وسلم-: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين. وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين؟ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل: سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح، فأنه غفور رحيم}.. ويتمثل في سلوك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع «هؤلاء الأعبد».. الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم- وهو بعد ذلك- رسول الله وخير خلق الله، وأعظم من شرفت بهم الحياة! ثم يتمثل في نظرة «هؤلاء الأعبد» لمكانهم عند الله؛ ونظرتهم لسيوفهم واعتبارها «سيوف الله» ونظرتهم لأبي سفيان «شيخ قريش وسيدهم» بعد أن أخره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقدّمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام، وهو في شدة الابتلاء.. فلما أن عاتبهم أبو بكر- رضي الله عنه- في أمر أبي سفيان، حذره صاحبه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكون قد أغضب «هؤلاء الأعبد»! فيكون قد أغضب الله- يا الله! فما يملك أي تعليق أن يبلغ هذا المدى وما نملك إلا أن نتملاه!- ويذهب أبو بكر- رضي الله عنه- يترضى «الأعبد» ليرضى الله: «يا إخوتاه. أغضبتكم»؟ فيقولون: «لا يا أخي. يغفر الله لك»! أي شيء هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية؟ أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس؟ أي تبدل في القيم والأوضاع، وفي المشاعر والتصورات، في آن؟ والأرض هي الأرض والبيئة هي البيئة، والناس هم الناس، والاقتصاد هو الاقتصاد. . وكل شيء على ما كان، إلا أن وحياً نزل من السماء، على رجل من البشر، فيه من الله سلطان.. يخاطب فطرة البشر من وراء الركام، ويحدو للهابطين هنالك عند السفح، فيستجيشهم الحداء- على طول الطريق- إلى القمة السامقة.. فوق.. فوق.. هنالك عند الإسلام! ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة؛ وتنحدر مرة أخرى إلى السفح. وتقوم- مرة أخرى- في نيويورك، وواشنطن، وشيكاغو.. وفي جوهانسبرج.. وفي غيرها من أرض «الحضارة!» تلك العصبيات النتنة. عصبيات الجنس واللون، وتقوم هنا وهناك عصبيات «وطنية» و«قومية» و«طبقية» لا تقل نتناً عن تلك العصبيات.. ويبقى الإسلام هناك على القمة.. حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية.. يبقى الإسلام هناك- رحمة من الله بالبشرية- لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل، وترفع عينيها عن الحمأة.. وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء؛ وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين؛ وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام.. ونحن لا نملك- في حدود منهجنا في هذه الظلال- أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة.. لا نملك أن نقف هنا تلك «الوقفة الطويلة» التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها. لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية؛ وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط، إلى تلك القمة السامقة البعيدة.. ثم تهبط مرة أخرى على عواء «الحضارة المادية» الخاوية من الروح والعقيدة!.. ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى؛ بعد أن فشلت جميع التجارب، وجميع المذاهب، وجميع الأوضاع، وجميع الأنظمة، وجميع الأفكار؛ وجميع التصورات، التي ابتدعها البشر لأنفسهم بعيداً عن منهج الله وهداه.. فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة؛ وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة؛ وأن تفيض على القلوب الطمأنينة- مع هذه النقلة الهائلة- وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح؛ وبلا اضطهادات؛ وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية؛ وبلا رعب، وبلا فزع، وبلا تعذيب، وبلا جوع، وبلا فقر، وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يضعها البشر؛ ويتعبد فيها بعضهم بعضاً من دون الله.. فحسبنا هذا القدر هنا.. وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها، وتسكبها في القلوب المستنيرة. {وكذلك نفصل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين}.. ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة. كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف؛ وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية؛ والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها.. {وكذلك نفصل الآيات}.. بمثل هذا المنهج، وبمثل هذه الطريقة، وبمثل هذا البيان والتفصيل.. نفصل الآيات، التي لا تدع في هذا الحق ريبة؛ ولا تدع في هذا الأمر غموضاً؛ ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق؛ فالحق واضح، والأمر بين، بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج.. على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان؛ ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع، يعتبر داخلاً في مدلول قوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات}.. أما ختام هذه الآية القصيرة: {ولتستبين سبيلُ المجرمين}.. فهو شأن عجيب!.. إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة! إن هذا المنهج لا يُعنى ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب. إنما يعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضاً.. إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين. وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق! إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله- سبحانه- ليتعامل مع النفوس البشرية.. ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر؛ والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص؛ وأن ذلك حق ممحض وخير خالص.. كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل.. وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين}. ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين، أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين. إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات. ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم. فهما صفحتان، متقابلتان وطريقان مفترقتان.. ولا بد من وضوح الألوان والخطوط.. ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين؛ ووضع العنوان المميز للمؤمنين. والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات. فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون. بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم. بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين. وهذا التحديد كان قائماً، وهذا الوضوح كان كاملاً، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية. فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن معه. وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين.. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله- سبحانه- يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة- ومنها ذلك النموذج الأخير- لتستبين سبيل المجرمين! وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية.. حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك.. لا يجدي معها التلبيس! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا.. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للاسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته.. ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام، تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسماً. وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً. وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله.. وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله- وحده- هو خالق هذا الكون المتصرف فيه. وأن الله- وحده- هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله. وأن الله- وحده- هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله.. وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله- بهذا المدلول- فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد. كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه. وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله- بهذا المدلول- فهي أرض لم تدن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد.. وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين؛ وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام.. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله- بذلك المدلول- ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول.. وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام! أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر.. أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين؛ واختلاط الشارات والعناوين؛ والتباس الأسماء والصفات؛ والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق! ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة. فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً. حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام!.. تهمة تكفير «المسلمين»!!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله! هذه هي المشقة الكبرى.. وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل! يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.. ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة. وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف؛ وألا تقعدهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين! إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون! إن الإسلام بيّن والكفر بين.. الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله- بذلك المدلول- فمن لم يشهدها على هذا النحو؛ ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين.. المجرمين.. {وكذلك نفصّل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين}.. أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة؛ وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوّقها غبش، ولا يميعها لبس. فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم «المسلمون» وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم «المجرمون».. كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملة وقومهم على ملة. وأنهم في دين وقومهم في دين: {وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}.. .. وصدق الله العظيم..
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)} هذه الموجة عودة إلى «حقيقة الألوهية» بعد بيان «حقيقية الرسالة وحقيقة الرسول» في الموجة السابقة لها في السياق المتلاحم؛ وبعد استبانة سبيل المجرمين واستبانة سبيل المؤمنين- كما ذكرنا ذلك في نهاية الفقرة السابقة. وحقيقة الألوهية في هذه الموجة تتجلى في مجالات شتى؛ نجملها هنا- قبل تفصيلها في استعراض النصوص القرآنية: تتجلى في قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يجد في نفسه بينة من ربه، هو منها على يقين، لا يزعزعه تكذيب المكذبين. ومن ثم يخلص نفسه لربه، ويفاصل قومه مفاصلة المستيقن من ضلالهم يقينه من هداه {قل: إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله. قل: لا أتبع أهواءكم، قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. قل: إني على بينة من ربي وكذبتم به. ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا لله، يقص الحق وهو خير الفاصلين}.. وتتجلى في حلم الله على المكذبين، وعدم استجابته لاقتراحاتهم أن ينزل عليهم خارقة مادية حتى لا يعجل لهم بالعذاب عند تكذيبهم بها- كما جرت سنته تعالى- وهو قادر عليه. ولو كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يملك هذا الذي يستعجلون به، ما أمسكه عنهم، ولضاقت بشريته بهم وبتكذيبهم. فإمهالهم هذا الإمهال هو مظهر من مظاهر حلم الله ورحمته، كما أنها مجال تتجلى فيه ألوهيته: {قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم، والله أعلم بالظالمين}.. وتتجلى في علم الله بالغيب؛ وإحاطة هذالعلم بكل ما يقع في هذا الوجود؛ في صورة لا تكون إلا لله؛ ولا يصورها هكذا إلا الله: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.. وتتجلى في هيمنة الله على الناس وقهره للعباد في كل حالة من حالاتهم، في النوم والصحو، في الموت والحياة، في الدنيا والآخرة: {وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار، ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى، ثم إليه مرجعكم، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون. وهو القاهر فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة، حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا، وهم لا يفرطون. ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق. ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}. وتتجلى في فطرة المكذبين أنفسهم، حين يواجهون الهول؛ فلا يدعون إلا الله لرفعه عنهم.. ثم هم مع ذلك يشركون، وينسون أن الله، الذي يدعونه لكشف الضر، قادر على أن يذيقهم ألوان العذاب فلا يدفعه عنهم أحد: {قل: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية: لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين؟ قل: الله ينجيكم منها ومن كل كرب، ثم أنتم تشركون. قل: هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم، أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض. انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}. {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله. قل لا أتبع أهواءكم. قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين.. قل إني على بينة من ربي- وكذبتم به- ما عندي ما تستعجلون به. إن الحكم إلا لله يقص الحق، وهو خير الفاصلين. قل: لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم، والله أعلم بالظالمين}.. تحتشد هذه الموجة بالمؤثرات الموحية، التي تتمثل في شتى الإيقاعات التي تواجه القلب البشري بحقيقة الألوهية في شتى مجاليها.. ومن بين هذه المؤثرات العميقة، ذلك الإيقاع المتكرر: «قل.. قل.. قل..» خطاباً لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليبلغ عن ربه، ما يوحيه إليه؛ وما لا يملك غيره؛ ولا يتبع غيره؛ ولا يستوحي غيره: {قل: إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله. قل: لا أتبع أهواءكم. قد ظللت إذاً، وما أنا من المهتدين}.. يأمر الله- سبحانه- رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يواجه المشركين بأنه منهي من ربه عن عبادة الذين يدعونهم من دون الله ويتخذونهم أنداداً لله.. ذلك أنه منهي عن اتباع أهوائهم- وهم إنما يدعون الذين يدعون من دون الله عن هوى لا عن علم، ولا عن حق- وأنه إن يتبع أهواءهم هذه يضل ولا يهتدي. فما تقوده أهواؤهم وما تقودهم إلا إلى الضلال. يأمر الله- سبحانه- نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يواجه المشركين هذه المواجهة، وأن يفاصلهم هذه المفاصلة؛ كما أمره من قبل في السورة بمثل هذا وهو يقول: {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أِشهد. قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون}.. ولقد كان المشركون يدعون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يوافقهم على دينهم، فيوافقوه على دينه! وأن يسجد لآلهتم فيسجدوا لإلهه! كأن ذلك يمكن أن يكون! وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب! وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه! وهو أمر لا يكون أبداً. فالله أغنى الشركاء عن الشرك. وهو يطلب من عباده أن يخلصوا له العبودية؛ ولا يقبل منهم عبوديتهم له إذا شابوها بشيء من العبودية لغيره.. في قليل أو كثير.. ومع أن المقصود في الآية أن يواجههم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأنه منهي عن عبادة أيٍّ مما يدعون ويسمون من دون الله، فإن التعبير ب {الذين} في قوله تعالى: {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله}. يستوقف النظر. فكلمة الذين تطلق على العقلاء. ولو كان المقصود هي الأوثان، والأصنام وما إليها لعبر ب «ما» بدل «الذين».. فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعاً آخر- مع الأصنام والأوثان وما إليها- نوعاً من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصول: «الذين» فغلب العقلاء، ووصف الجميع بوصف العقلاء.. وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة؛ ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة: فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها. ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس.. وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد. حيث يسنون لهم السنن، ويضعون لهم التقاليد؛ ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي.. وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية.. فالإسلام يعتبر هذا شركاً؛ ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم؛ وجعلهم أنداداً من دون الله.. وينهى الله عنه نهيه عن السجود للأصنام والأوثان؛ فكلاهما في عرف الإسلام سواء.. شرك بالله، ودعوة أنداد من دون الله! ثم يجيء الإيقاع الثاني موصولاً بالإيقاع الأول ومتمماً له: {قل: إني على بينة من ربي؛ وكذبتم به، ما عندي ما تستعجلون به. إن الحكم إلا لله، يقص الحق، وهو خير الفاصلين}.. وهو أمر من الله- سبحانه- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يجهر في مواجهة المشركين المكذبين بربهم- بما يجده في نفسه من اليقين الواضح الراسخ، والدليل الداخلي البين، والإحساس الوجداني العميق، بربه.. ووجوده، ووحدانيته، ووحيه إليه. وهو الشعور الذي وجده الرسل من ربهم، وعبروا عنه مثل هذا التعبير أو قريباً منه: قالها نوح- عليه السلام-: {قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم؟ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟} وقالها صالح- عليه السلام-: {قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير} وقالها إبراهيم- عليه السلام-: {وحاجه قومه. قال: أتحاجوني في الله وقد هدان؟} وقالها يعقوب- عليه السلام- لبنيه: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً. قال ألم أقل لكم: إني أعلم من الله ما لا تعلمون؟} فهي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب أوليائه؛ ممن يتجلى الله لهم في قلوبهم؛ فيجدونه- سبحانه- حاضراً فيها؛ ويجدون هذه الحقيقة بينة هنالك في أعماقهم تسكب في قلوبهم اليقين بها. وهي الحقيقة التي يأمر الله نبيه أن يجهر بها في مواجهة المشركين المكذبين؛ الذين يطلبون منه الخوارق لتصديق ما جاءهم به من حقيقة ربه، الحقيقة التي يجدها هو كاملة واضحة عميقة في قلبه: {قل إني على بينة من ربي، وكذبتم به}.. كذلك كانوا يطلبون أن ينزل عليهم خارقة أو ينزل بهم العذاب، ليصدقوا أنه جاءهم من عند الله.. وكان يؤمر أن يعلن لهم حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول؛ وأن يفرق فرقاناً كاملاً بينها وبين حقيقة الألوهية؛ وأن يجهر بأنه لا يملك هذا الذي يستعجلونه؛ فالذي يملكه هو الله وحده؛ وهو ليس إلهاً، إنما هو رسول: {ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا لله، يقص الحق وهو خير الفاصلين}.. إن إيقاع العذاب بهم بعد مجيء الخارقة وتكذيبهم بها حكم وقضاء؛ ولله وحده الحكم والقضاء. فهو وحده الذي يقص الحق ويخبر به؛ وهو وحده الذي يفصل في الأمر بين الداعي إلى الحق والمكذبين به. وليس هذا أو ذلك لأحد من خلقه. وبذلك يجرد الرسول- صلى الله عليه وسلم- نفسه من أن تكون له قدرة، أو تدخل في شأن القضاء الذي ينزله الله بعباده. فهذا من شأن الألوهية وحدها وخصائصها، وهو بشر يوحى إليه، ليبلغ وينذر؛ لا لينزل قضاء ويفصل. وكما أن الله سبحانه هو الذي يقص الحق ويخبر به؛ فهو كذلك الذي يقضي في الأمر ويفصل فيه.. وليس بعد هذا تنزيه وتجريد لذات الله- سبحانه- وخصائصه، عن ذوات العبيد.. ثم يؤمر أن يلمس قلوبهم وعقولهم ويلفتها إلى دلالة قوية على أن هذا الأمر من عند الله، ومتروك لمشيئة الله. فلو أن أمر الخوارق- بما فيها إنزال العذاب- في مقدوره- وهو بشر- ما استطاع أن يمسك نفسه عن الاستجابة لهم، وهم يلحفون هذا الإلحاف. ولكن لأن الأمر بيد الله وحده، فهو يحلم عليهم؛ فلا يجيئهم بخارقة يتبعها العذاب المدمر، إن هم كذبوا بها كما فعل بمن قبلهم: {قل: لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم، والله أعلم بالظالمين}.. إن للطاقة البشرية حدوداً في الصبر والحلم والإمهال. وما يحلم على البشر ويمهلهم- على عصيانهم وتمردهم وتبجحهم- إلا الله الحليم القوي العظيم.. وصدق الله العظيم.. فإن الإنسان ليرى من بعض الخلق ما يضيق به الصدر، وتبلغ منه الروح الحلقوم.. ثم ينظر فيجد الله- سبحانه- يسعهم في ملكه، ويطعمهم، ويسقيهم، ويغدق أحياناً عليهم، ويفتح عليهم أبواب كل شيء.. وما يجد الإنسان إلا أن يقول قولة أبي بكر- رضي الله عنه- والمشركون يضربونه الضرب المبرح الغليظ، حتى ما يعرف له أنف من عين: «رب ما أحلمك! رب ما أحلمك!». . فإنما هو حلم الله وحده.. وهو يستدرجهم من حيث لا يعلمون! {والله أعلم بالظالمين}.. فهو يمهلهم عن علم، ويملي لهم عن حكمة، ويحلم عليهم وهو قادر على أن يجيبهم إلى ما يقترحون، ثم ينزل بهم العذاب الأليم.. وبمناسبة علم الله- سبحانه- بالظالمين؛ واستطراداً في بيان حقيقة الألوهية؛ يجلي هذه الحقيقة في مجال ضخم عميق من مجالاتها الفريدة.. مجال الغيب المكنون، وعلم الله المحيط بهذا الغيب إحاطته بكل شيء، ويرسم صورة فريدة لهذا العلم؛ ويرسل سهاماً بعيدة المدى تشير إلى آماده وآفاقه من بعيد: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين}.. إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط؛ الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض ولا في طباق الجو، من حي وميت ويابس ورطب.. ولكن أين هذا الذي نقوله نحن- بأسلوبنا البشري المعهود- من ذلك النسق القرآني العجيب؟ وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد، من ذلك التصوير العميق الموحي؟ إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول، وعالم الغيب وعالم الشهود، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح، ووراء حدود هذا الكون المشهود.. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد. وهو يرتاد- أو يحاول أن يرتاد- أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل؛ البعيدة الآماد والآفاق والأغوار.. مفاتحها كلها عند الله؛ لا يعلمها إلا هو.. ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر، المكشوفة كلها لعلم الله. ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، لا يحصيها عد، وعين الله على كل ورقة تسقط. هنا وهنا وهناك. ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله. ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط.. إنها جولة تدير الرؤوس، وتذهل العقول. جولة في آماد من الزمان، وآفاق من المكان، وأغوار من المنظور والمحجوب، والمعلوم والمجهول.. جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف، يعيا بتصور آمادها الخيال.. وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات.. ألا إنه الإعجاز! وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز، الناطق بمصدر هذا القرآن. ننظر إليها من ناحية موضوعها، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر؛ فليس عليه طابع البشر.. إن الفكر البشري- حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع: موضوع شمول العلم وإحاطته- لا يرتاد هذه الآفاق. . إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود. إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته.. فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر، في كل أنحاء الأرض؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء. لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض. ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق؛ ويعبر عنه الخالق! وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبأونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته.. فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؛ فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به، ولا أن يلحظوا وجوده، ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق! وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق: {ولا رطب ولا يابس}.. إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم.. فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل. فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق! ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة، وكل حبة مخبوءة، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين، وفي سجل محفوظ.. فما شأنهم بهذا، وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك، الذي لا يند عنه شيء في ملكه.. الصغير كالكبير؛ والحقير كالجليل؛ والمخبوء كالظاهر؛ والمجهول كالمعلوم؛ والبعيد كالقريب.. إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع.. مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعاً، والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعاً، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعاً.. إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري؛ وكذلك لا تلحظه العين البشرية؛ ولا تلم به النظرة البشرية.. إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده؛ المشرف على كل شيء، المحيط بكل شيء.. الحافظ لكل شيء، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء.. الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب.. والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيداً حدود التصور البشري، وحدود التعبير البشري أيضاً. ويعلمون- من تجربتهم البشرية- أن مثل هذا المشهد، لا يخطر على القلب البشري؛ كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضاً.. والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلاً! وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم. كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته، فنرى آفاقاً من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر، على هذا المستوى السامق: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}.. آماد وآفاق وأغوار في «المجهول» المطلق. في الزمان والمكان، وفي الماضي والحاضر والمستقبل، وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان.. {ويعلم ما في البر والبحر}.. آماد وآفاق وآغوار في «المنظور»، على استواء وسعة وشمول.. تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب. {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها}.. حركة الموت والفناء؛ وحركة السقوط والانحدار، من علو إلى سفل، ومن حياة إلى اندثار. {ولا حبة في ظلمات الأرض}.. حركة البزوغ والنماء، المنبثقة من الغور إلى السطح، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق. {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.. التعميم الشامل، الذي يشمل الحياة والموت، والأزدهار والذبول؛ في كل حي على الإطلاق.. فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال؟.. من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله، في مثل هذا النص القصير.. من؟ إلا الله! ثم نقف أمام قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}.. نقف لنقول كلمة عن {الغيب} و{مفاتحه} واختصاص الله- سبحانه- «بالعلم» بها.. ذلك أن حقيقة الغيب من «مقومات التصور الإسلامي» الأساسية؛ لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية؛ ومن قواعد «الإيمان» الرئيسية.. وذلك أن كلمات «الغيب» و«الغيبية» تلاك في هذه الأيام كثيراً- بعد ظهور المذهب المادي- وتوضع في مقابل «العلم» و«العلمية».. والقرآن الكريم يقرر أن هناك «غيباً» لا يعلم «مفاتحه» إلا الله. ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل.. وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو- سبحانه- من طاقته ومن حاجته. وأن الناس لا يعلمون- فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه- إلا ظناً، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً.. كما يقرر- سبحانه- أن الله قد خلق هذا الكون، وجعل له سنناً لا تتبدل؛ وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها؛ ويتعامل معها- في حدود طاقته وحاجته- وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقيناً وتأكداً أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق.. دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها، بحقيقة «الغيب» المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولاً، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من الله، ينشئ هذا الحدث ويبرزه للوجود. . في تناسق تام في العقيدة الإسلامية، وفي تصور المسلم الناشئ من حقائق العقيدة.. فهذه الحقائق بجملتها- على هذا النحو المتعدد الجوانب المتناسق المتكامل- تحتاج منا هنا- في الظلال- إلى كلمة نحاول بقدر الإمكان أن تكون مجملة، وألا تخرج عن حدود المنهج الذي اتبعناه في الظلال أيضاً. إن الله سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب؛ فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية: {ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين: الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 1-5]. والإيمان بالله- سبحانه- هو إيمان بالغيب. فذات الله- سبحانه- غيب بالقياس إلى البشر؛ فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب، يجدون آثار فعله، ولا يدركون ذاته، ولا كيفيات أفعاله. والإيمان بالآخرة كذلك، هو إيمان بالغيب. فالساعة بالقياس إلى البشر غيب، وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن، تصديقاً لخبر الله سبحانه. والغيب الذي يتحقق الإيمان بالتصديق به يشمل حقائق أخرى يذكرها القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وعقيدتهم الشاملة: {آمن الرسول بما إنزل إليه من ربه والمؤمنون. كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. لا نفرق بين أحد من رسله. وقالوا: سمعنا وأطعنا. غفرانك ربنا، وإليك المصير} [البقرة: 285]. فنجد في هذا النص أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين كذلك، كلٌّ آمن بالله- وهو غيب- وآمن بما أنزل الله على رسوله- وما أنزل الله على رسوله فيه جانب من إطلاعه- صلى الله عليه وسلم- على جانب من الغيب بالقدر الذي قدره الله- سبحانه- كما قال في الآية الأخرى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحداً إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 26- 27]. وآمن بالملائكة- وهي غيب- لا يعرف عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله، على قدر طاقتهم وحاجتهم. ويبقى من الغيب الذي لا يقوم الإيمان إلا بالتصديق به: قدر الله- وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع- كما جاء في حديث الإيمان: «... والقدر خيره وشره».. (اخرجه الشيخان). على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب.. غيب في الماضي وغيب في الحاضر، وغيب في المستقبل.. غيب في نفسه وفي كيانه، وغيب في الكون كله من حوله.. غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره، وغيب في طبيعته وحركته. . غيب في نشأة الحياة وخط سيرها، وغيب في طبيعتها وحركتها.. غيب فيما يجهله الإنسان، وغيب فيما يعرفه كذلك! ويسبح الإنسان في بحر من المجهول.. حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانه هو ذاته فضلاً على ما يجري حوله في كيان الكون كله؛ وفضلاً عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله: ولكل ذرة، وكل كهرب من ذرة؛ وكل خلية وكل جزئي من خلية! إنه الغيب.. إنه المجهول.. والعقل البشري- تلك الذبالة القريبة المدى- إنما يسبح في بحر المجهول. فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم. ولولا عون الله له، وتسخير هذا الكون، وتعليمه هو بعض نواميسه، ما استطاع شيئاً.. ولكنه لا يشكر.. {وقليل من عبادي الشكور} بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف الله له من السنن، وبما آتاه من العلم القليل.. يتبجح فيزعم أحياناً أن «الإنسان يقوم وحده» ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه! ويتبجح أحياناً فيزعم أن «العلم» يقابل «الغيب» وأن «العلمية» في التفكير والتنظيم تقابل «الغيبية» وأنه لا لقاء بين العلم والغيب؛ كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية! فلنلق نظرة على وقفة «العلم» أمام «الغيب».. في بحوث وأقوال «العلماء» من بني البشر أنفسهم- بعد أن نقف أمام كلمة الفصل التي قالها العليم الخبير عن علم الإنسان القليل- {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85] {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 29] وأن الغيب كله لله: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}... [الأنعام: 59] وأن الذي يعلم الغيب هو الذي يرى: {أم عنده علم الغيب فهو يرى؟} [النجم: 35]... وهي ناطقة بذاتها عن مدلولاتها.. فلنلق نظرة على وقفة «العلم» أمام «الغيب» في بحوث وأقوال العلماء من بني الإنسان لا لنصدق بها كلمة الفصل من الله سبحانه- فحاشا للمؤمن أن يصدق قول الله بقول البشر- ولكننا نقف هذه الوقفة لنحاكم الذين يلوكون كلمات العلم والغيب، والعلمية والغيبية، إلى ما يؤمنون هم به من قول البشر! ليعلموا أن عليهم هم أن يحاولوا «الثقافة» و«المعرفة» ليعيشوا في زمانهم؛ ولا يكونوا متخلفين عن عقليته ومقررات تجاربه! وليستيقنوا أن «الغيب» هو الحقيقة «العلمية» الوحيدة المستيقنة من وراء كل التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته! وأن «العلمية» في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماماً «للغيبية».. أما الذي يقابل الغيبية حقاً فهو «الجهلية»!!! الجهلية التي تعيش في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر- ربما- ولكنها لا تعيش في القرن العشرين!!! عالم معاصر- من أمريكا- يقول عن «الحقائق» التي يصل إليها «العلم» بجملتها: «إن العلوم حقائق مختبرة؛ ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته. ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود. فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ. وهي تبدأ بالاحتمالات، وتنتهي بالاحتمالات كذلك.. وليس باليقين.. ونتائج العلوم بذلك تقريبية، وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات؛ ونتائجها اجتهادية، وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف، وليست نهائية. وإننا لنرى أن العالِم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول: إن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن، ويترك الباب مفتوحاً لما قد يستجد من التعديلات «. وهذه الكلمة تلخص حقيقة جميع النتائج التي وصل إليها العلم، والتي يمكن أن يصل إليها كذلك. فطالما أن» الإنسان «بوسائله المحدودة، بل بوجوده المحدود بالقياس إلى الأزل والأبد هو الذي يحاول الوصول إلى هذه النتائج؛ فإنه من الحتم أن تكون مطبوعة بطابع هذا الإنسان، ولها مثل خصائصه من كونها محدودة المدى؛ وقابلة للخطأ والصواب، والتعديل والتبديل.. على أن الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى أية نتيجة هي التجربة والقياس. فهو يجرب، ثم يعمم النتيجة التي يصل إليها عن طريق القياس؛ والقياس- باعتراف العلم وأهله- وسيلة تؤدي إلى نتيجة ظنية؛ ولا يمكن أبداً أن تكون قطعية ولا نهائية. والوسيلة الأخرى- وهي التجربة والاستقصاء بمعنى تعميم التجربة على كل ما هو من جنس ما وقعت عليه التجارب في جميع الأزمنة وفي جميع الظروف- وسيلة غير مهيأة للإنسان. وهي إحدى الوسائل الموصلة إلى نتائج قطعية. ولا سبيل إلى نتيجة قطعية وحقيقة يقينية إلا عن طريق هدى الله الذي يبينه للناس. ومن ثم يبقى علم الإنسان فيما وراء ما قرره الله له، علماً ظنياً لا يصل إلى مرتبة اليقين بحال! على أن» الغيب «ضارب حول الإنسان فيما وراء ما يصل إليه علمه الظني ذاك... هذا الكون من حوله.. إنه ما يزال يضرب في الفروض والنظريات حول مصدره ونشأته وطبيعته وحول حركته، وحول» الزمان «ما هو وحول» المكان «وارتباطه بالزمان وارتباط ما يجري في الكون بالزمان والمكان. والحياة. ومصدرها. ونشأتها. وطبيعتها. وخط سيرها. والمؤثرات فيها. وارتباطها بهذا الوجود» المادي «! إن كان هناك في الكون مادة على الإطلاق ذات طبيعة غير طبيعة» الفكر «وغير طبيعة الطاقة على العموم! » والإنسان «ما هو؟ ما الذي يميزه من المادة؟ وما الذي يميزه عن بقية الأحياء؟ وكيف جاء إلى هذه الأرض وكيف يتصرف؟ وما» العقل «الذي يتميز به ويتصرف؟ وما مصيره بعد الموت والإنحلال؟. بل هذا الكيان الإنساني ذاته، ما الذي يجري في داخله من تحليل وتركيب في كل لحظة؟ وكيف يجري؟.. إنها كلها ميادين للغيب، يقف العلم على حافاتها، ولا يكاد يقتحهما، حتى على سبيل الظن والترجيح. وإن هي إلا فروض واحتمالات! ولندع ما لا يشغل العلم به نفسه- إلا قليلاً في هذا القرن- من حقيقة الألوهية، وحقيقة العوالم الأخرى من ملائكة وجن وخلق لا يعلمه إلا الله. ومن حقيقة الموت، وحقيقة الآخرة. وحقيقة الحساب والجزاء.. لندع هذا كله لحظة ففي «الغيب» القريب، الكفاية، ومن هذا الغيب يقف العلم وقفة التسليم، الذي لا يخرج عنه إلا من يؤثرون المراء على «العلم» والتبجح على الإخلاص! ونضرب بعض الأمثال.. 1- في قاعدة بناء الكون وسلوكه: الذرة- فيما يقول العلم الحديث- قاعدة بناء الكون. وليست هي أصغر وحدة في بناء هذا العالم. فهي مؤلفة من بروتونات (طاقة كهربية موجبة) والكترونات (طاقة كهربية سالبة) ونيوترونات (طاقة محايدة مكونة من طاقة كهربائية موجبة وطاقة كهربائية سالبة متعادلتين ساكنتين) وحين تحطم الذرة تتحرر الكهارب (الإلكترونات) ولكنها لا تسلك في المعمل سلوكاً حتمياً موحداً. فهي تسلك مرة كأنها أمواج ضوئية ومرة كأنها قذائف. ولا يمكن تحديد سلوكها المقبل مقدماً. وإنما هي تخضع لقانون آخر- غير الحتمية- هو قانون الاحتمالات. وكذلك تسلك الذرة نفسها، والمجموعة المحدودة من الذرات (في صورة جزيئات) هذا السلوك. يقول سير جيمس جيننر- الإنجليزي- الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات: «لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً: وهو الطريق الذي رسم من قبل، لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول، وألا مناص من أن الحالة (أ) تتبعها الحالة (ب) أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن هو: أن الحالة (أ) يحتمل أن تتبعها (ب) أو (ج) أو (د) أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر. نعم إن في استطاعته أن يقول: إن حدوث الحالة (ب) أكثر أحتمالاً من حدوث الحالة (ج) وإن الحالة (ج) أكثر احتمالاً من الحالة (د).. وهكذا. بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات (ب) و(ج) و(د) بعضها بالنسبة إلى بعض. ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين: أي الحالات تتبع الأخرى. لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل. أما ما يجب أن يحدث فأمره موكول إلى الأقدار- مهما تكن حقيقة هذه الأقدار!». فمإذا يكون «الغيب» وماذا يكون قدر الله المغيب عن علم الإنسان، إن لم يكن هو هذا الذي تنتهي إليه تجارب العلم الإنساني، وتقف على عتباته في صلب الكون وذراته؟ ويضرب مثلاً لذلك إشعاع ذرات الراديوم، وتحولها إلى رصاص وهليوم.. وهي خاضعة تماماً لقدر مجهول، وغيب مستور، يقف دونه علم الإنسان: «ولنضرب لذلك مثلاً مادياً يزيده وضوحاً: من المعروف أن ذرات الراديوم وغيره من المواد ذات النشاط الإشعاعي، تتفكك بمجرد مرور الزمن عليها، وتخلف وراءها ذرات من الرصاص والهليوم. ولهذا فإن كتلة من الراديوم ينقص حجمها باستمرار، ويحل مكانها رصاص وهليوم. والقانون العام الذي يتحكم في معدل التناقص غريب غاية الغرابة. ذلك أن كمية من الراديوم تنقص بنفس الطريقة التي ينقص بها عدد من السكان، إذا لم تجد عليهم مواليد، وكانت نسبة تعرض كل منهم للوفاة واحدة بغض النظر عن السن؛ أو أنها تنقص كما ينقص عدد أفراد كتيبة من الجند معرضين لنيران ترسل عليهم اعتباطاً، ومن غير أن يكون أحدهم مقصوداً لذاته. ومجمل القول إنه ليس لكبر السن أثر ما في ذرة الراديوم الواحدة. فإنها لا تموت لأنها قد استوفت حظها من الحياة، بل لأن المنية قد أصابتها خبط عشواء. » ولنوضح هذه الحقيقة بمثل مادي فنقول: إذا فرض أن بحجرتنا ألفين من ذرات الراديوم. فإن العلم لا يستطيع أن يقول: كم منها يبقى حياً بعد عام. بل كل ما يستطيعه هو أن يذكر فقط الاحتمالات التي ترجح بقاء 2000 أو 1999 أو 1998، وهكذا. وأكثر الأمور احتمالاً في الواقع هو أن يكون العدد 1999، أي أن أرجح الاحتمالات هو أن ذرة واحدة لا أكثر من الألفي ذرة، هي التي تتحلل في العام التالي. «ولسنا ندري بأية طريقة تختار تلك الذرة المعينة من بين هذه الألفي ذرة. وقد نشعر في بادئ الأمر بميل إلى افتراض أن هذه الذرة ستكون هي التي تتعرض للاصطدام أكثر من غيرها، أو التي تقع في أشد الأمكنة حرارة، أو التي يصادفها غير هذا أو ذاك من الأسباب في العام التالي. ولكن هذا كله غير صحيح، لأنه إذا كان في استطاعة الصدمات أو الحرارة أن تفكك ذرة واحدة، فإن في استطاعتها أيضاً أن تفكك ال 1999 ذرة الباقية، ويكون في استطاعتنا أن نعجل بتفكيك الراديوم بمجرد ضغطه أو تسخينه؛ ولكن كل عالم من علماء الطبيعة يقرر أن ذلك مستحيل؛ بل هو يعتقد على الأرجح أن الموت يصيب في كل عام ذرة واحدة من كل 2000 من ذرات الراديوم، ويضطرها إلى أن تتفكك. وهذه هي نظرية» التفكك التلقائي «التي وضعها» رذرفورد «و» سدي «في عام 1903. فكيف إذن يكون القدر الغيبي إن لم يكن هو هذا الذي تتشعع به الذرات على غير اختيار منها ولا من أحد. وعلى غير علم منها ولا من أحد؟! إن الرجل الذي يقول هذا الكلام، لا يريد أن يثبت به القدر الإلهي المغيب عن الناس. بل إنه ليحاول جاهداً أن يهرب من ضغط النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري ذاته. ولكن حقيقة الغيب تفرض نفسها عليه فرضاً على النحو الذي نراه! 2- وكما تفرض حقيقة «الغيب» نفسها على قاعدة بناء الكون وحركته، فهي كذلك تفرض نفسها على قاعدة انبثاق الحياة وحركتها بنفس القوة في النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري. يقول عالم الأحياء والنبات «رسل تشارلز إرنست» الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا: «لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات؛ فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة. وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات. ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازاً وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذين خلق الأشياء ودبرها. » إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها. وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإنني أؤمن بوجود الله إيماناً راسخاً «. والذي يهمنا هنا من هذه الشهادة هو أن سر الحياة ونشأتها غيب من غيب الله، كنشأة الكون وحركته؛ وأن ليس لدى البشر عن ذلك إلا الاحتمالات. وصدق الله العظيم: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} 3- ونخطو خطوة واسعة لنصل إلى الإنسان.. إن الدفقة الواحدة من ماء الرجل تحتوي على نحو ستين مليوناً من الحيوانات المنوية.. كلها تدخل في سباق لتلحق بالبويضة في رحم المرآة.. ولا يعلم أحد من الذي يسبق! فهو غيب، أو هو قدر غيبي لا علم للبشر به- بما فيهم الرجل والمرأة صاحبا الدور في هذا الأمر!- ثم يصل السابق من بين ستين مليوناً! ويلتحم مع البويضة ليكوّنا معاً خلية واحدة ملقحة هي التي ينتج منها الجنين. ولما كانت كل كروموسومات البويضة مؤنثة، بينما كروموسومات الحيوان المنوي بعضها مذكر وبعضها مؤنث؛ فإن غلبة عدد كروموسومات التذكير أو كروموسومات التأنيث في الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة، هو الذي يقرر مصير الجنين- ذكراً أو أنثى- وهذا خاضع لقدر الله الغيبي لا علم به ولا دخل للبشر- بما فيهم أبوا الجنين أنفسهما: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد. وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} [الرعد: 8- 9] {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكراناً وإناثا ويجعل من يشاء عقيماً، إنه عليم قدير} [الشورى: 49- 50] {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك، لا إله إلا هو فأنى تصرفون؟} [الزمر: 6]. هذا هو «الغيب» الذي يقف أمامه «العلم» البشري؛ ويواجهه في القرن العشرين.. بينما الذين يعيشون على فتات القرون الماضية يزعمون أن «الغيبية» تنافي «العلمية». وأن المجتمع الذي يريد أن يعيش بعقلية علمية ينبغي له أن يتخلص من العقلية الغيبية! ذلك بينما العلم البشري ذاته.. علم القرن العشرين.. يقول: إن كل ما يصل إليه من النتائج هو «الاحتمالات»! وإن الحقيقة المستيقنة الوحيدة هي أن هنالك «غيباً» لا شك فيه! على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب، ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة «الغيب» في العقيدة الإسلامية، وفي التصور الإسلامي، وفي العقلية الإسلامية. إن القرآن الكريم- وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشئ التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية- يقرر أن هناك عالماً للغيب وعالماً للشهادة. فليس كل ما يحيط بالإنسان غيباً، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولاً.. إن هنالك سنناً ثابتة لهذا الكون؛ يملك «الإنسان» أن يعرف منها القدر اللازم له، حسب طاقته وحسب حاجته، للقيام بالخلافة في هذه الأرض. وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية؛ وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة، وتعمير الأرض، وترقية الحياة، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها.. وإلى جانب هذه السنن الثابتة- في عمومها- مشيئة الله الطليقة؛ لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها. وهناك قدر الله الذي يُنفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها. فهي ليست آلية بحتة، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها؛ وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها. وهذا القدَر الذي يُنفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها «غيب» لا يعلمه أحد علم يقين؛ وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و«الاحتمالات».. وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضاً.. وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة؛ وكلها «غيب» بالقياس إليه، وهي تجري في كيانه! ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله؛ وهو لا يعلمها! وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون. وحاضره وحاضر الكون. ومستقبله ومستقبل الكون.. وذلك مع وجود السنن الثابتة، التي يعرف بعضها، وينتفع بها انتفاعاً علمياً منظماً في النهوض بعبء الخلافة. وإن «الإنسان» ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه! وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله!.. وكذلك كل شيء حي.. ومهما تعلم ومهما عرف، فإن هذا لن يغير من هذا الواقع شيئاً! إن العقلية الإسلامية عقلية «غيبية علمية» لأن «الغيبية» هي «العلمية» بشهادة «العلم» والواقع.. أما التنكر للغيب فهو «الجهلية» التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة! وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابته.. فلا يفوت المسلم «العلم» البشري في مجاله، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة؛ وهي أن هنالك غيباً لا يُطلع الله عليه أحداً، إلا من شاء بالقدر الذي يشاء.. والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها «الفرد» فيتجاوز مرتبة «الحيوان» الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة «الإنسان» الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس- أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس- وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله، ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود؛ وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الآثر في حياته على الأرض. فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه؛ ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود؛ وأن وراء الكون.. ظاهره وخافيه.. حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده.. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول. ... «لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان- كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى.. إلى عالم البهيمة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا» تقدمية «! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميزة هي صفة: {الذين يؤمنون بالغيب}.. والحمد لله على نعمائه؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين». والذين يتحدثون عن «الغيبية» و«العلمية» يتحدثون كذلك عن «الحتمية التاريخية» كأن كل المستقبل مستيقن! و«العلم» في هذا الزمان يقول: إن هناك «احتمالات» وليست هنالك «حتميات»! ولقد كان ماركس من المتنبئين «بالحتميات»! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم؟ لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلترا، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر.. فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفاً صناعياً.. في روسيا والصين وما إليها.. ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية! ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي. وها هو ذا خليفتهما «خروشوف» يحمل راية «التعايش السلمي»! ولا نمضي طويلاً مع هذه «الحتميات» التنبؤية! فهي لا تستحق جدية المناقشة! إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي حقيقة الغيب، وكل ما عداها احتمالات. وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره. وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو. وإن هنالك- مع هذا وذلك- سنناً للكون ثابتة، يملك الإنسان أن يتعرف إليها، ويستعين بها في خلافة الأرض، مع ترك الباب مفتوحاً لقدر الله النافذ؛ وغيب الله المجهول.. وهذا قوام الأمر كله.. {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ومن علم الله الشامل بمفاتح الغيب، وبما يجري في جنبات الكون، ينتقل السياق إلى مجال من مجالات هذا العلم الشامل، في ذوات البشر، ومجال كذلك من مجالات الهيمنة الإلهية، بعد العلم المحيط: {وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار، ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى، ثم إليه مرجعكم، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون}.. بضع كلمات أخرى، كالتي رسمت آفاق الغيب وآماده وأغواره، وأشارت إلى مدى العلم الإلهي وشموله في الآية السابقة.. بضع كلمات أخرى تضم حياة البشرية كلها في قبضة الله- سبحانه- وفي علمه وقدره وتدبيره.. صحوهم ومنامهم.. موتهم وبعثهم. حشرهم وحسابهم.. ولكن على «طريقة القرآن» المعجزة في الإحياء والتشخيص، وفي لمس المشاعر واستجاشتها، مع كل صورة وكل مشهد وكل حركة يرسمها تعبيره العجيب. {وهو الذي يتوفاكم بالليل}.. فهي الوفاة إذن حين يأخذهم النعاس؛ هي الوفاة في صورة من صورها بما يعتري الحواس من غفلة، وما يعتري الحس من سهوة، وما يعتري العقل من سكون، وما يعتري الوعي من سبات- أي انقطاع- وهو السر الذي لا يعلم البشر كيف يحدث؛ وإن عرفوا ظواهره وآثاره؛ وهو «الغيب» في صورة من صوره الكثيرة المحيطة بالإنسان.. وهؤلاء هم البشر مجردين من كل حول وطول- حتى من الوعي- ها هم أولاء في سبات وانقطاع عن الحياة. ها هم أولاء في قبضة الله- كما هم دائماً في الحقيقة- لا يردهم إلى الصحو والحياة الكاملة إلا إرادة الله.. فما أضعف البشر في قبضة الله! {ويعلم ما جرحتم بالنهار}.. فما تتحرك جوارحهم لأخذ أو ترك، إلا وعند الله علم بما كسبت من خير أو شر.. وهؤلاء هم البشر مراقبين في الحركات والسكنات؛ لا يند عن علم الله منهم شيء، مما تكسبه جوارحهم بعد الصحو بالنهار! {ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى}.. أي يوقظكم في النهار من سباتكم وانقطاعكم؛ لتتم آجالكم التي قضاها الله.. وهؤلاء هم البشر داخل المجال الذي قدره الله. لا مهرب لهم منه، ولا منتهى لهم سواه! {ثم إليه مرجعكم}.. فهي الأوبة إلى الراعي بعد انقضاء المراح! {ثم ينبئكم بما كنتم تعملون}.. فهو عرض السجل الذي وعى ما كان، وهو العدل الدقيق الذي لا يظلم في الجزاء. وهكذا تشمل الأية الواحدة، ذات الكلمات المعدودة، ذلك الشريط الحافل بالصور والمشاهد، والمقررات والحقائق، والإيحاءات والظلال.. فمن ذا الذي يملك أن يصنع ذلك؟ وكيف تكون الآيات الخوارق، إن لم تكن هي هذه؟ التي يغفل عنها المكذبون، ويطلبون الخوارق المادية وما يتبعها من العذاب الأليم! ولمسة أخرى من حقيقة الألوهية.. لمسة القوة القاهرة فوق العباد. والرقابة الدائمة التي لا تغفل. والقدر الجاري الذي لا يتقدم ولا يتأخر، والمصير المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب. والحساب الأخير الذي لا يني ولا يمهل.. وكله من الغيب الذي يلف البشر ويحيط بالناس: {وهو القاهر فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة، حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون. ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق، ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}.. {وهو القاهر فوق عباده}.. فهو صاحب السلطان القاهر؛ وهم تحت سيطرته وقهره. هم ضعاف في قبضة هذا السلطان؛ لا قوة لهم ولا ناصر. هم عباد. والقهر فوقهم. وهم خاضعون له مقهورون.. وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة.. وهذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس- مهما ترك لهم من الحرية ليتصرفوا، ومن العلم ليعرفوا، ومن القدرة ليقوموا بالخلافة- إن كل نفس من أنفاسهم بقدر؛ وكل حركة في كيانهم خاضعة لسلطان الله بما أودعه في كيانهم من ناموس لا يملكون أن يخالفوه. وإن كان هذا الناموس يجري في كل مرة بقدر خاص حتى في النفس والحركة! {ويرسل عليكم حفظة}.. لا يذكر النص هنا ما نوعهم.. وفي مواضع أخرى أنهم ملائكة يحصون على كل إنسان كل ما يصدر عنه.. أما هنا فالمقصود الظاهر هو إلقاء ظل الرقابة المباشرة على كل نفس. ظل الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة. فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة وكل نأمة؛ ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء.. وهذا التصور كفيل بأن ينتفض له الكيان البشري؛ وتستيقظ فيه كل خالجة وكل جارحة.. {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون}.. الظل نفسه، في صورة أخرى.. فكل نفس معدودة الأنفاس، متروكة لأجل لا تعلمه- فهو بالنسبة لها غيب لا سبيل إلى كشفه- بينما هو مرسوم محدد في علم الله، لا يتقدم ولا يتأخر. وكل نفس موكل بأنفاسها وأجلها حفيظ قريب مباشر حاضر، لا يغفو ولا يغفل ولا يهمل- فهو حفيظ من الحفظة- وهو رسول من الملائكة- فإذا جاءت اللحظة المرسومة الموعودة- والنفس غافلة مشغولة- أدى الحفيظ مهمته، وقام الرسول برسالته.. وهذا التصور كفيل كذلك بأن يرتعش له الكيان البشري؛ وهو يحس بالقدر الغيبي يحيط به؛ ويعرف أنه في كل لحظة قد يُقبض، وفي كل نفس قد يحين الأجل المحتوم. {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق}.. مولاهم الحق من دون الآلهة المدعاة.. مولاهم الذي أنشأهم، والذي أطلقهم للحياة ما شاء.. في رقابته التي لا تغفل ولا تفرط.. ثم ردهم إليه عندما شاء؛ ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب: {ألا له الحكم، وهو أسرع الحاسبين}.. فهو وحده يحكم، وهو وحده يحاسب. وهو لا يبطئ في الحكم، ولا يمهل في الجزاء.. ولذكر السرعة هنا وقعه في القلب البشري. فهو ليس متروكاً ولو إلى مهلة في الحساب! وتصور المسلم للأمر على هذا النحو الذي توحي به أصول عقيدته في الحياة والموت والبعث والحساب، كفيل بأن ينزع كل تردد في إفراد الله سبحانه بالحكم- في هذه الأرض- في أمر العباد.. إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة، إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا؛ ولا يحاسب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من الله تعين لهم ما يحل وما يحرم، مما يحاسبون يوم القيامة على أساسه؛ وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس.. فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة الله؛ فعلام يحاسبون في الآخرة؟ أيحاسبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها؛ ويتحاكمون إليها؟ أم يحاسبون وفق شريعة الله السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها؛ ولا يتحاكمون إليها؟ إنه لا بد أن يستيقن الناس أن الله محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد. وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم- كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم- وفق شريعة الله في الدنيا، فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله. وأنهم يومئذ سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا الله- سبحانه- إلهاً في الأرض؛ ولكنهم اتخذوا من دونه أرباباً متفرقة. وأنهم محاسبون إذن على الكفر بألوهية الله- أو الشرك به باتباعهم شريعته في جانب العبادات والشعائر، واتباعهم شريعة غيره في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وفي المعاملات والارتباطات- والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. ثم يحاكمهم إلى فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية؛ وتلتجئ إلى إلهها الحق في ساعة الشدة؛ ويرسم لهم هذه الفطرة أمام الهول والكرب؛ وكيف يخالفون عنها في اليسر والرخاء.. في مشهد قصير سريع، ولكنه واضح حاسم، وموح مؤثر. إن الهول والكرب الذي ترتعد له الفرائص ليس مؤجلاً دائماً إلى يوم الحشر والحساب. فهم يصادفون الهول في ظلمات البر والبحر. فلا يتوجهون عند الكرب إلا لله؛ ولا ينجيهم من الكرب إلا الله.. ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء: {قل: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر، تدعونه تضرعاً وخفية: لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين. قل: الله ينجيكم منها ومن كل كرب، ثم أنتم تشركون}.. إن تصور الخطر، وتذكر الهول، قد يردان النفوس الجامحة، ويرققان القلوب الغليظة، ويذكران النفس لحظات الضعف والإنابة؛ كما يذكرانها رحمة الفرج ونعمة النجاة: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية: لئن أنجانا من هذه لنكون من الشاكرين}.. إنها تجربة يعرفها كل من وقع في ضيقة، أو رأى المكروبين في لحظة الضيق.. وظلمات البر والبحر كثيرة. وليس من الضروري أن يكون الليل لتتحقق الظلمات. فالمتاهة ظلام، والخطر ظلام، والغيب الذي ينتظر الخلق في البر والبحر حجاب.. وحيثما وقع الناس في ظلمة من ظلمات البر والبحر لم يجدوا في أنفسهم إلا الله يدعونه متضرعين أو يناجونه صامتين.. إن الفطرة تتعرى حينئذ من الركام؛ فتواجه الحقيقة الكامنة في أعماقها.. حقيقة الألوهية الواحدة.. وتتجه إلى الله الحق بلا شريك؛ لأنها تدرك حينئذ سخافة فكرة الشرك، وتدرك انعدام الشريك! ويبذل المكروبون الوعود: {لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين}.. والله- سبحانه- يقول لرسوله- صلى الله عليه وسلم- ليذكرهم بحقيقة الأمر: {قل: الله ينجيكم منها ومن كل كرب}. فليس هنالك غيره يستجيب، ويقدر على دفع الكروب. . ثم ليذكرهم بتصرفهم المنكر العجيب: {ثم أنتم تشركون}.. وهنا يواجههم ببأس الله الذي قد يأخذهم بعد النجاة! فما هي مرة وتنتهي، ثم يفلتون من القبضة كما يتصورون: {قل: هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، أو يلبسكم شيعاً، ويذيق بعضكم بأس بعض. انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}.. وتصور العذاب الغامر من فوق، أو النابع من تحت، أشد وقعاً في النفس من تصوره آتياً عن يمين أو شمال. فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال! أما العذاب الذي يصب عليه من فوق، أو يأخذه من تحت، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل، لا مقاومة له ولا ثبات معه! والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء. ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله؛ والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء؛ لوناً آخر بطيئاً طويلاً؛ لا ينهي أمرهم كله في لحظة؛ ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار: {أو يلبسكم شيعاً، ويذيق بعضكم بأس بعض}.. وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد؛ الذي يذوقونه بأيديهم، ويجرعونه لأنفسهم؛ إذ يجعلهم شيعاً وأحزاباً، متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض، ولا يفاصل بعضها بعضاً، فهي أبداً في جدال وصراع، وفي خصومة ونزاع، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك.. ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب، كلما انحرفت عن منهج الله؛ وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم.. تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور. وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعاً وشرائع وقوانين وقيماً وموازين من عند أنفسهم؛ يتعبد بها الناس بعضهم بعضاً؛ ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر، والبعض الآخر يأبى ويعارض، وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض. وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم. فيذوق بعضهم بأس بعض، ويحقد بعضهم على بعض، وينكر بعضهم بعضاً، لأنهم لا يفيئون جميعاً إلى ميزان واحد؛ يضعه لهم المعبود الذي يعنو له كل العبيد، حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكباراً عن الخضوع له، ولا يحس في نفسه صغاراً حين يخضع له. إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم، ثم يزاول هذا الحق فعلاً! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعاً ملتبسة؛ لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعاً واحداً، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيداً لبعض؛ ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها- لأنها غير مقيدة بشريعة من الله- ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص. . ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض! وهم شيع؛ ولكنها ليست متميزة ولا منفصلة ولا مفاصِلة! والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد! وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض. وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة- بها والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية- وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها؛ باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها. إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب: {أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض}.. إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيدياً وشعورياً ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها- حتى يأذن الله لها بقيام «دار إسلام» تعتصم بها- وإلا أن تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي «الأمة المسلمة» وأن ما حولها ومن حولها، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه، جاهلية وأهل جاهلية. وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج؛ وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين. فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة، ولم تتميز هذا التميز، حق عليها وعيد الله هذا. وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع، ولا تتبين نفسها، ولا يتبينها الناس مما حولها. وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد؛ دون أن يدركها فتح الله الموعود! إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات.. غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها.. ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم.. لم يقع في مرة واحدة، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها لقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة- أي الدين- وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها- أي نظام حياتها- وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعاً. وطريق هذه الدعوة واحد. ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعاً، صلوات الله عليهم وسلامه: {انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}.. والله نسأل أن يجعلنا ممن يصرف الله لهم الآيات فيفقهون..
|